حوار : حسين سرمك حسن ماذا يحدث حين يتحاور
عقلان كبيران .. او حين يلتقي طبيب نفساني ؛ وناقد ادبي يتخذ من عوالم المبدع س ) منذ مجموعتك الاولى ( سلاما ايها
الفقراء ) وانحيازك صارخ للفقراء ؛ وفي كتابك دفتر حربك : يوميات فندق ابن الهيثم -
اعترفت كيف ان هؤلاء الفقراء الاميين هم الذين منحوك الشجاعة .. هل كان لطفولتك في
البصرة دورا في تعزيز هذه المشاعر؟ كم
لعبت هذه المشاعر في تاجيج منجزك الابداعي ؟ بلا شك ان الطفولة ومكوناتها الاولى ؛ هي الحاضنة التي تنبئك عمّا هو
قادم
في الذات ؛ والبصرة ابّان طفولتي ؛ طقس لا يشابه اية مدينة في
العالم : منجم من الذهب الاسود ؛ وغابات نخيل ؛ وطيور.. واسماك ؛ وبحر مفتوح لكل
بواخر الدنيا ؛ مع ذلك
فانت ترى الى الفقر وهو منتشر فيها انتشار البلهارزيا ..
وقد قدّر لطفولتي ان تكون شاهدة على كدّ الفقراء اليوميّ ؛ وعلى معاركهم
مع ارباب العمل ..
على نضالهم السريّ ضد المستعمرين " الانكليز " وضد البرجوازية الطبقية ؛
التي التصقت بتعبهم كالتصاق الطفيليات ..
الاحاديث التي كانت تدورعلى مواقد الشتاء بين اعمامي واندادهم ؛ هي التي
شدّتني الى " الرجولة " ورسّخت قيمها عندي في الحياة والموت ..
من هنا ؛ ارادت احرفي ان تمجّدهم باعتبارهم " الرمز " الذي يحلم ان
يكونه أي فتى ؛ فقد كان بهم من الكبرياء والشهامة والخسارات ؛ ما لا يمكن ان يمرّ
به ايّ خيال مرور الكرام ؛ والى الآن ؛ بعد مايقرب من عقود من الحماقات ؛ الجأ الى
تلك الوجوه الموغلة في القدم واستند الى شجاعتها ..
ذكرتُ ؛ في دفتر الحرب ؛ ولو بشكل عابر وقائع اعمامي ؛ المدهشين ؛ الذين
ينامون طوال النهار ؛ حتى اذا اعتم الليل .. خرجت البنادق اليدوية من بين اخشاب
السقف ؛ وانكشفت الافرشة لتبرق الخناجر والمديّ ؛ وامام افاهنا المفغورة تراجع "
الاحداثيات " الاخيرة للهجوم المرتقب على " ثكنات" الجنود في " الشعيبة " القاعدة
الاشهر للبريطانيين في البصرة ؛ وكيف .. ومن .. سيهرّب الغنائم عبر " شط العرب "
الى " الاحواز " ...
هل يمكنك ان تتصوّر سحر هذا العالم ؛ ولا معقوليته
؛ دهشته وترقّبه وانتظارات طلوع الفجر ؛ من دون ان يظهر في الافق : اب .. او عم ..
او ابن عم ؛ او قريب ..؟من جهة ثانية كان جدي - لأبي - عاملا في السكك الحديد ؛ القطارات ؛
وسحرها ؛ وزعيقها الذي " يترس " العواطف عبقا ؛ حتى اذا ما استقرّت - القطارات - في
محطتها الاخيرة في
( خمسة ميل ) وابتدأت البضائع بالانتقال الى الميناء القريب ؛ انتقلت
معها ..
الى المديات اللامنتهية للماء والنوارس ؛ والاهازيج القروية التي تشدّ
من ازر العمال لانجاز ما يوكل اليهم ..
هولاء الناس ؛ هم من سكنوا اصابعي .. من تسلّقوها - كما يتسلّق السحرة
المكانيس في الحكايات الخرافية ؛ وهم - وحدهم - من كتبوا تواريخهم الشخصية .. من
مجّدوا انفسهم في كتاباتي ؛ وان لم يكن بمستوى تقديري لهم ..
أليس من الاجحاف الا يرافقون احرفي ؛ الى الان .. ؟
لقد كان الفقراء - بالنسبة لي - اكثر من نبوءة .. كانوا : اناي
ومنذ هذه المجموعة ايضا ؛ وعبر مجاميعك
اللاحقة : يوم لايواء الوقت وشتاء عاطل ثم مجموعتك ( اكليل موسيقى على جثة بيانو )
وانت متهم من قبل بعض النقاد : بالوضوح ..؟ انا شخصيا اجده
امتيازا ؛ ترى كيف تفلسف هذا الموقف في الوقت الذي يتجه الكثيرون نحو التلغيز ؟ كيف
يتفق الوضوح مع التوريات التي تتطلبها العملية الشعرية ؟الوضوح والغموض في الشعر نسبيّان ؛ ولا يحدّدان قيمة القصيدة او يكوّنان
معيارا لجودتها ؛ فلكل منهما عالم وملامح .. المهم ما الذي تضيفه هذي القصيدة او
تلك الى رصيدك الابداعي او الى الشعر بشكل عام .. ؟
قد تجد الوضوح في قصيدة " ملغّزة " كجزء مهمّ من نسيجها ؛ مثلما قد ياتي
" التلغيز " في قصيدة " وضوحيّة " ؟!!
بالنسبة لي : الوضوح ؛ نوع من التعاطف الانساني مع الآخر ..
وانا هنا اقول ( الوضوح ) وليس ( التسطيح ) مثلما اقول ( الترميز )
واعني به الجهد المبدع والخلاق الذي يقود القارئ الى اكتشافات باهرة ؛ وليس (
التلغيز ) المدجّل ؛ الا يكفي ما موجود في حياتنا من دجل سياسي لنضيف اليها الدجل
الشعري ..
في فترة من الفترات ؛ انتشرت موضة قصيدة ( القناع ) لتاتي بعدها القصيدة
( المدوّرة ) ومن ثمّ القصيدة ( اليومية ) فقصيدة ( الجملة ) ..
ايّة وصفة للشعر ؛ سيتجاوزها الشعر ؛ ويبقى ذلك الاحساس العميق بالكلمة
؛ دائما وابدا ..
في فرنسا ( فرنسا السريالية والدادائية والوجودية والعبث ) وفي قمّة
التغريب ؛ نراها - في فترة الثورة الطلابية في الستينيات ؛ تخطّ القصائد على
الجدران وعلى الارصفة ؛ تماما مثلما كنا نفعل مع قصائد الجواهري والرصافي في
الاربعينيات ؛ فهل كانت فرنسا تخطّ القصائد السريالية المحرّضة ؛ ام القصائد
الواضحة القصد والتي تصل الى اوسع الشرائح ..؟
باعتقادي ؛ ان التواصل مع القارئ يضيف ابداعا الى القصيدة ؛ باعتبار ان
الشاعر واحد من اهمّ شهود الحياة ؛ ومن دون صوته ستضيع الكثير من الحقائق الانسانية
على الاجيال ..
رغم اغراء الظلام ؛ ودهشته ؛ وغموضه ؛ وسرّيته ؛ اراني انحاز الى النهار
؛ لانه ببساطة ؛ يقودك الى اختراع ظلام آخر ؛ غير مرئي ؛ تكتشف دهشته وغموضه
وسريته واغراءه ؛ بطرقك الخاصة ..
اختراع الظلام لعبة شاعر قبل كل شئ ؛ اما الظلام - ذاته - فللسياسيين
والقتلة ..
اقول الظلام ؛ ولا اقصد ان اجرح كبرياء الليل .
القصة القصيرة جدا " الشعرية " طبعا ،
الومضة .. وروح السرد ؛ هي من مميزات اسلوبك الشعري .. هل جعلك هذا من اصحاب النفس
القصير في القصيدة ..؟ ما الذي وفرته الروح السردية لقصيدتك
؟ لاعترف ؛ انني لست صاحب نظرية في الشعر ؛ بحيث اضع منهاجا لقصيدتي
واهندسها .. السرد ؛ يرضي غروري حين يتحول - نوعا ما - الى السيرة الذاتية ؛ وربما
يكون لقراءاتي المكثفة في الرواية دخل في ( السرد ) الذي يشير اليه احيانا النقاد ؛
مثلما تساءلت عنه انت ..
الشاعر ؛ قاص عظيم ؛ بل من اعظم كتّاب الرواية اذا استطاع في مثل
المساحة الصغيرة المتاحة له ( القصيدة ) ان يخلق عوالمه الخاصة ؛ وشخصياته ؛
واحداثه ؛ وان يوحّد ( المطلق ) في ( الآني ) ..
الشعراء العظماء ؛ هم الشعراء الرواة في التاريخ ؛ بدءا من جلجامش ؛
مرورا بالالياذة والشاهنامة ؛ فامرئ القيس وطرفة وعمر ابن ابي ربيعة والنؤاسي
والمتنبي ؛ اما قصر القصيدة وطولها ؛ فيحكمها موضوعها ..
الشعر ؛ بالدرجة الاساس ؛ هو صراع الموهبة مع اللغة ؛ لابعاد السائد
منها ..
وليس لاثقالها بالفائض .
وارتباطا بالروح السردية ؛ تسمي يوميات
فندق ابن الهيثم ( دفتر حرب ) وفي عنوان آخر ( رواية حرب ) كم تحمل من خصائص
الرواية ..؟ مهارتك السردية البارزة واضحة وباهرة ..
اين اصبح مشروعك الروائي ؟ هل نستطيع التعرّف على ثيمته الاساسية
؟يوميات فندق ابن الهيثم ؛ هي كتاب يؤرخني مثلما يؤرّخ المدينة ( البصرة
) وفصوله تمتد على مساحة زمنية تستغرق طوال سنوات الحرب ( العراقية الايرانية ) أي
ثماني سنوات ؛ ومساحة جغرافية زمنها العراق كله ؛ من شماله الى جنوبه ؛ ومن شرقه
الى غربه ؛ وبالتالي فهي ( رواية ) حرب ؛ او ( دفتر حرب ) حقيقي ؛ ودفتر الحرب -
وهذا مما يعرفه الجنود - هو السجل اليومي لاحداث القطعة العسكرية ؛ في القتال
والادارة والاوامر الاخرى .. وها ما تجده في الكتاب ؛ وان كان سجلا ( شخصيا ) للناس
الذين التقيتهم في الخطوط الامامية ؛ وفي كمائن الموت ..
مشروعي الروائي ( اذا جازت التسمية ) ابتدأ مع بدايات الحرب مع ايران ؛
وكان اسمها ؛ وكأنه نبوءة - ( لن يتوقف الرصاص ) لانه - فعلا لم يتوقف الرصاص فيما
بعد ؛ ونشرت منها فصلين في مجلة يرأس تحريرها الناقد الكبير محمد الجزائري ؛ الذي
احتفى بها في تقديم ما نشرته المجلة ؛ وثيمتها هي خراب العلاقات الانسانية
وتجوهرها في الازمات ؛ مثلما فيها وحشية تعامل المتقاتلين مع الاسرى ؛ عكس كل القيم
والاعراف والتقاليد التي تفرضها الانسانية والدين ..
وتآمرا ؛ على كسلي في اكمالها ؛ سمّيت يوميات ابن الهيثم ( رواية حرب )
؛ تجد تآمري عليها ايضا في الشعر ؛ خصوصا في بعض القصائد التي اعتبرها انا ؛ روايات
كاملة ؛
قال احد النقاد المنصفين بحق : انك تفلت من
التجبيل ومن التصنيف الفني لانك نسيج وحدك .. من الواضح انك تعمدت ذلك ؛ فبم تسلحت
لتأسيس منجزك الابداعي المتميز ؟ وتحقيق تفردك بين اقرانك ؟الشعراء الفاشلون ؛ وحدهم ؛ من يبحثون عن ( جيل ) يؤرشفهم ؛ ويدوّن
اسماءهم في اضابيره ؛ اما الشعراء ؛ الحقيقيون ؛ فكل الاجيال هي جيلهم الذي ينتمي
اليهم ؛ ويرفدوه بنعمة انتسابهم اليه ..
حلمت ان ابدأ مع جلجامش ؛ وفي كل قصيدة كنت احاول ان اجدد الحلم ..
مع ايّ جيل انا الان ؟
امر لا يهمني على الاطلاق ؛ ما الذي حققته - عدا علاقتي مع الانسان -
امر لا يهمني كثيرا ؟
يوميا اجلس قبالة الاوراق البيض ؛ وانصب الفخاخ لطائر القصيدة المجهول
.. احيانا ياتي حَجَلٌ ؛ احيانا اخرى حمامة او غراب ؛ واحايين ؛ اقنع بالندى
المتساقط على الاوراق ..
كلما توغلنا في القصيدة ؛ صار من الصعب تجييلنا ..
عند الانتهاء من اية قصيدة اكتبها ؛ اعود الى نقطة الصفر ؛ وفي القصيدة
التي تليها ؛ اقف مثل تلميذ مدهوش امام الاحرف التي يخطّها معلمه على سبورة الحياة
..
الا تعتقد ان مراهنتك على لحظة التنوير ؛
على المفارقة النهائية ؛ تضعف المسار الشعري في القصيدة ؟ وجود الشاعر في الحياة ؛ وموته العبثي ؛ بحد ذاته مفارقة سوداء
..
مفارقة ازلية لن تشيخ ..
في الشعر ؛ تفقد المفارقة معناها القاموسي ؛ وتصبح رصدا جوهريا للحياة
والموت ؛ للزمان والمكان ..
هناك - الان - قطيعة بيننا والعالم ؛ فالتمزّق الذي يحيط بالانسان
المعاصر يحتاج الى مليون دستيفسكي ليسبر اغواره ؛ والى مليون ادغار الان بو ؛ والى
كافكويين لا حصر لهم ..
حين يصبح التفسير متعذرا ؛ الجأ الى المفارقة ؛ لتصبح قوة مضافة الى
النسيج الشعري ..
ولكن اية مفارقة انشد ؟
المفارقة التي لا تشيخ ؛ والتي تعود اليها لتكتشف ان فيها جوانب اخرى
قابلة للتفسير والتاويل ؛ فاتتك في القراءة السابقة .
الشاعر ابن اللغة البار ؛ ومن تمرّده عليها ؛ من تلاعبه بالقوانين التي
تحكم الكلام ومألوفيته ؛ تولد مفارقته الكتابية ؛ والتي تجدني انحاز اليها في
قصائدي ..
النرجسية الطافحة في ( وردة نرسيس ) الا
تعارض بطولتك الحربية ..؟ ام ان اعذب الشعر اكذبه ؟ وانك فعلا من
الشعراء الذين في كل واد يهيمون ويقولون ما لايفعلون ؟ في قصيدة قصيرة ؛ اقول : ( كل ما ليس لي
هو .. لي
يحقّ للشاعر
ما لا يحقّ لنفسه .. )
ايّ مبدع بلا نرجسية ؛ اشطب عليه بالاحمر .. الكتابة - بالاساس - نوع من
تمجيد الذات ؛ سواء بشكل مباشر ؛ او من خلال تمجيد الناس الذين تذوب فيهم او يذوبون
في داخلك ..
اذكر انني قدّمت مرة القاص الكبير عبد الستار ناصر ؛ بامسية على قاعة
اتحاد الادباء في العراق ؛ وقلت في نهاية التقديم : اترككم ؛ مع ( الكاذب الكبير
عبد الستار ) ليثور جدل على هذه الجملة ؛ حسمه من يفهمون مغزى ان يكون المبدع
كاذبا في خلق عوالم لا يمكن ان تمرّ في بال احد ؛ وليس كاذبا اجتماعيا بالتاكيد
..
ومن هنا العذوبة .. والتي رسّخت مقولة : اكذبه .. اعذبه
نرجسية الشاعر ؛ حاولت من خلالها ان اعوّض تواضع القرويين المتأصل في
داخلي ؛ والذي يجعلهم مركونين في الظل ؛ في حين ؛ يتراكض الاشباه واشباه اشباههم
تحت الشمس ؟!!
اما ( اليوميات ) وما ورد فيها من موقف موثّقة بالاسماء والتواريخ
والمدن والمعارك ؛ فتلك نرجسية اخرى ؛ مشروعة ؛ لانها مرتبطة بثقافة اجتماعية عميقة
الجذور ..
كيف تقول لأمراة تحبها : احبك ؛ وفوق تراب ارضك جزمة اجنبي ؟!!
نرجسية ( اليوميات ) ارث لاولادنا .. هي ما اردت ان اقول عبرها ؛ ان
الانتماء ابسط اثمانه : الدم
.. اهيم في كل واد يتاح لي ؛ نعم
لكنني افعل - وليعذرني الله - ما اقوله ؛ وما اريد ان افعله .. وان كنت
لست من جماعة : الاّ
انت مشاكس فعلي في حياتك ؛ وهو امر معروف
عن سلوكك ؛ لكنك مشاكس هائل في شعرك ؛ كيف طوّعت هذه السمة الشخصية فنيا
؟ كم كانت هذه السمة مفيدة - او مدمرة - لك
؛ في تعاملك مع الموت في الحرب
؟ الاموات ؛هم حملة الحقيقة الناصعة لما دار في ساحة المعركة ..
لكن - للاسف - من يكتب هذه الحقيقة هم المنتصرون ومن بقي على قيد الحياة
.
حين انظر الى شطّ العرب ؛ وارفع حفنة ماء محاولا تلمّس أي القطرات التي
تمتّ
بصلة لدجلة ؛ وايها تعود الى الفرات .. وايها التي ستبقى محافظة على
انتسابها الى النبع ؛ برغم اندماجها مع ملايين الامواج الذاهبة الى اللانهاية
..
اشعر انني مثلها ؛ مثل هذه القطرات التي جاءت من مكان قصيّ ؛ وستذهب الى
مكان قصيّ ..
ربما تكون هذه الفلسفة ( بطرانة ) الان ؛ لكنها في سنوات القتال - تلك
- كانت كافية لكي استمر بدوامي الرسمي مع القنابل دون خوف ..
في كل قصيدة .. في كل كتابة فصل من ابن الهيثم ؛ كنت اقول لنفسي : انها
الاخيرة !!
الموت يعطيك الاحساس الحقيقي بالحياة ؛ ويكثّف لك الوجود الانساني ؛
مقابل الغياب القسري الذي تسرّبه لك الحرب .
اعود لجلجامش ؛ وحروبه ؛ وبحثه عن الخلود ؛ وعن السبيل اليه ( العشبة )
وعن سخرية ما قدّرته الآلهة لمصير رحلته ؛ فاذا كل الذي مقدّر هو مقدّر ؛ تبقى
الاشياء الاخرى من ال ( مكمّلات ) ليس الا ..!!
هناك جانب ( علمي ) في الموت ؛ من اختصاص الاطباء واصحاب الحوانيت ؛
وهناك جانب ادبي من اختصاص المجانين والشعراء ..
بالجنون والشعر ؛ شاكست الموت ؛ كما شاكسه المتنبي ؛ وهمنغواي ؛ قبل ان
يستسلما له .
في شعرك وفي نثرك ؛ بل وحتى في احاديثك ؛
تشيع المفردات العسكرية والحربية وتظهر سطوتها واضحة .. ماهي ضرورات ذلك الفنية
والنفسية ؟ هل تعتقد ان الحرب ستخلق منجزا شعريا
متميزا ؟هل يمكن ان يتنصّل الكاتب - أي كاتب - عن تجربة بضخامة 8 سنوات من
القتال اليومي المرّ ..؟
ثماني سنوات اعقبتها حرب ضارية اخرى ؛ وحصار اكثر ضراوة ؛ وقنابل ذكية
وجنرالات اغبياء ؛ وآلاف آلاف الاطفال الذين ذووا مثل الشمع في ظهيرة تموز ..
هذا كله ؛ هو ضرورتي النفسية والفنية ؛ وهو منجمي الذي اغرف منه في
الكتابة وفي الحياة ..
في كل الحروب التي خاضتها الامة العربية ؛ وخصوصا في العصر الحديث ؛
كانت الكتابات التي ترافق ( الحدث ) انشائية .. وهامشية .. وتستثمر جو التعبئة
لتحقيق التحريض الآني ؛ حالها حال خطب الزعماء والبيانات العسكرية والاناشيد ..
مع حربنا الطويلة ضد ايران ؛ اتيح - للمرة الاولى - للاديب ؛ الكاتب ؛
ان يكون فاعلا وموثرا في تمجيد الوطن والناس الذين يدافعون عنه ؛ وهي القضية
الاسمى في الوجود .. بعيدا عن حسابات واحقاد القادة والسياسيين ؛ قضية تاريخ ؛
وقضية جغرافية ..
هناك شعوب تخلق من ( شجار ) بين قبيلتين اعمالا خالدة ؛ فكيف بالعراق ؛
الارض التي جبلت اساسا من دم وتراب ؛ وليس من ماء وتراب ؛ وكيف باهله الذين علموا
العالم الكتابة والقراءة واستخدام اول آلة حربية في الكون .. مثلما علموهم اول
قصائد الحب ..
البشرية ؛ تعود الى ما خطّه الادباء الذين رافقوا الحرب العالمية الاولى
؛ والثانية ؛ لتعرف حجم خسائرها الانسانية ؛ فعلام نبخل عليها بهذه المعرفة ؛ في
حرب اصبحت معاركها تدرّس في كبريات الاكاديميات العسكرية باعتبارها ( معارك فاصلة )
في التاريخ الحديث ..؟!!
الحرب ستخلق ..؟
بل خلقت منجزها ؛ وسيبقى القادمون الى واحة الادب ؛ وكل من يرغب بالنهل
من السلام ؛ بحاجة الى التوقّف في محطاتها المؤثثة جيدا بالعِبَر والموعظة والابداع
..
تتساءل في يوميات فندق
ابن الهيثم وبشكل مستمر ؛ بعد الحرب كم يلزمني من وقت لكي انسى
؟ الان ؛ هل تمكنت من النسيان
؟ وتلك الرائحة المدمرة التي لاحقتك في
حديقة الحيوانات هل خفّت ؟ هل اختفت ؟ ام انها مازالت ملأ خشمك كما
تقول ؟اظنك - باعتبارك طبيبا نفسيا فضلا عن كونك ناقد - اقدر مني على تشخيص
محاولة الهروب ممّا ؛ وممّن ؛ يسكن ويحتلّ داخلك ..
كعراقي ؛ دخلت الحرب نتيجة ( استدعاء ) لجنود الاحتياط ؛ وكشاعر ؛ اردت
ان اكون في خطوطها الامامية لاتعرّف عليها عن كثب .. لكن ؛ كأنسان .. لم انتم اليها
على الاطلاق ..
الحرب ؛ تجزّ العاطفة ( والتي هي اساس شغل الشاعر ) كما تجزّ آلة العشب
الحشيش اليابس ..
•· في الاجازات الدورية ؛ والتي غالبا ما تتاخر ؛ احاول ان انسى كل
الذي تركته وراء ظهري : المدافع .. الراجمات .. الكمائن القتالية .. القصف المعادي
..
اقول لنفسي ؛ هذه الايام السبعة ( ايام الاجازة المستقطع منها ايام
الطريق ) هي عمرك المضاف ؛ عمرك المقتطع من الموت ؛ فتمتّع به ؛ وكما يليق بجنونك
..
ولكن أنّى لي ذلك .. ؟
رائحة الموت ومشتقاته ؛ الى هذه اللحظة تترصّدني ؛ ورجالاته يملؤون
ذاكرتي الى طاقة استيعابها القصوى ..
اذكر ؛ حين نشر هذا الفصل من اليوميات في الصحف المحلية ؛ والذي اتساءل
فيه عن النسيان .. والذكرى ؛ اتصل بي اكثر من طبيب نفسي عارضا خدماته عليّ ؛ وعزّ
على كبريائي ان اتحوّل الى " فار" تجارب مختبرية ..
اجدادهم ..